في ظل الصراعات والحروب، تبرز العدالة الانتقالية كأداة أساسية لمعالجة إرث الانتهاكات وبناء مستقبل قائم على العدل والمساواة. في سوريا، مع ما شهده الشعب من انتهاكات جسيمة ودمار شامل، أصبح الحديث عن العدالة الانتقالية ضرورياً لضمان تحقيق الإنصاف وإعادة بناء الثقة بين مختلف مكونات المجتمع. العدالة الانتقالية ليست مجرد مصطلح قانوني، بل هي رحلة للمجتمع بأكمله نحو التعافي من الماضي الجائر والتطلع إلى مستقبل يتسم بالإنصاف والعدالة.
فالعدالة الانتقالية هي مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي يتم اتخاذها في المجتمعات الخارجة من صراعات أو نظم قمعية لمعالجة الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان. تشمل هذه التدابير المحاسبة القضائية، كشف الحقيقة، تعويض الضحايا، الإصلاحات المؤسسية، وبرامج المصالحة. الهدف هو معالجة إرث الماضي بطريقة تحول دون تكرار الانتهاكات وتساعد في بناء مجتمع يقوم على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون.
مقومات العدالة الانتقالية في سوريا بعد سقوط نظام الإرهابي بشار الأسد:
في حال سقوط نظام الأسد، وخاصة في المناطق التي شهدت مجازر جماعية أو صراع طائفي، ستواجه سوريا تحديات معقدة تتطلب تبني العدالة الانتقالية على عدة مستويات:
1. كشف الحقيقة: توثيق الانتهاكات والمجازر التي ارتكبت من قبل جميع الأطراف، والاعتراف بآلام الضحايا.
2. محاسبة المجرمين: تقديم مرتكبي الجرائم إلى العدالة من خلال محاكمات عادلة تضمن حقوق الدفاع وتستند إلى الأدلة المثبتة.
3. تعويض الضحايا: سواء كان تعويضًا ماديًا أو رمزيًا، يجب أن يتم الاعتراف بمعاناة الضحايا وأسرهم من خلال تقديم الدعم المالي والمعنوي لهم.
4. الإصلاح المؤسسي: إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية، لا سيما الأمنية والقضائية، لضمان عدم تكرار الانتهاكات، مع تطبيق آليات تضمن الشفافية والمساءلة.
5. المصالحة المجتمعية: توجيه جهود نحو تحقيق المصالحة بين مختلف الطوائف والجهات المجتمعية التي تأثرت بالصراع، وتعزيز الحوار والتفاهم.
هل تعني العدالة المصالحة والمسامحة؟
العدالة الانتقالية لا تعني المصالحة الفورية أو المسامحة القسرية. تحقيق العدالة لا يتطلب من الضحايا أن يغفروا، بل يتعلق بإقرار الحقيقة، ومحاسبة المذنبين، وتقديم التعويض. المصالحة قد تكون جزءاً من العدالة، لكنها يجب أن تكون اختيارية وتأتي بعد بناء الثقة وإصلاح الضرر. أي مصالحة ناجحة تعتمد على الاعتراف بالجرائم وتقديم الاعتذار وتعويض الضحايا، وليس مجرد تجاوز الماضي دون معالجة حقيقية.
تلعب المنظمات المحلية والدولية دورًا كبيرًا في تحقيق العدالة الانتقالية من خلال:
1. توثيق الانتهاكات: جمع الأدلة والشهادات من الضحايا والمجتمعات المتضررة لضمان أن يتم تسجيل كل الجرائم والانتهاكات.
2. رفع الوعي والتوعية المجتمعية: من خلال حملات توعية، يمكن للمنظمات تسليط الضوء على أهمية العدالة الانتقالية وتثقيف المجتمع حول حقوقه وواجباته.
3. برامج الدعم النفسي والاجتماعي: تقديم الدعم للضحايا وأسرهم من خلال خدمات الرعاية النفسية والاجتماعية التي تساعدهم على التعامل مع الصدمات.
4. المساهمة في برامج المصالحة: تنظيم مبادرات محلية تجمع بين المجتمعات المختلفة وتعزز الحوار بهدف بناء التفاهم وتقليل التوترات.
5. الضغط من أجل الإصلاح المؤسسي: يمكن للمنظمات أن تعمل مع الحكومات المحلية والمجتمع الدولي لدعم الإصلاحات التي تعزز الشفافية والمساءلة داخل مؤسسات الدولة.
توصيات لتعزيز شعور العدالة لدى أسر الضحايا
- إشراك الضحايا في عملية صنع القرار: يجب أن يكون للضحايا وأسرهم دور في تحديد كيفية تحقيق العدالة والتعامل مع الجرائم التي ارتكبت ضدهم.
- تعزيز الشفافية في كافة الجوانب: سواء في المحاكمات أو برامج التعويض، يجب أن يكون الضحايا وأسرهم على علم بكل خطوة تُتخذ لضمان استعادة ثقتهم.
- التعليم والتوعية: ضمان أن الجيل القادم يفهم أهمية العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان، من خلال إدماج هذه المفاهيم في المناهج الدراسية وحملات التوعية.
بناء مستقبل عادل لسوريا يتطلب منا جميعًا العمل معًا لتحقيق العدالة الانتقالية. هذه العملية ليست سهلة، لكنها ضرورية لضمان عدم تكرار الانتهاكات وإرساء أسس مجتمع أكثر إنصافًا واستقرارًا.
رائد حمد
28-01-2025