في عالمنا المعاصر، لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي خياراً ترفيهياً أو واجهة إعلامية فقط، بل أصبحت جزءاً من بنية الحكم والحوكمة الرشيدة، خاصة في السياقات المحلية التي تتطلب تواصلاً مباشراً ومستمراً بين الإدارة والمجتمع.
البلديات اليوم، سواء في المدن الكبرى أو في البلدات الريفية النائية، تواجه تحديات متزايدة في تقديم الخدمات، معالجة الشكاوى، ورفع كفاءة الاستجابة.
وهنا يأتي دور وسائل التواصل الاجتماعي كجسر تكنولوجي وعملي بين المواطن وصاحب القرار المحلي.
الحكم المحلي لا يكتمل دون مشاركة مجتمعية، ولا مشاركة دون تواصل فعّال. وسائل التواصل الاجتماعي تُعد اليوم امتداداً لصوت المواطن، ومنصة فورية لإيصال المعلومة، ومنبراً يمكن للبلديات من خلاله أن تعزز الشفافية وتبني الثقة.
في السياقات المحلية والريفية، تصبح هذه الوسائل أكثر أهمية للأسباب التالية:
- غياب الصحافة المحلية أو ضعف وسائل الإعلام التقليدية.
- ارتفاع نسبة الشباب الذين لا يتابعون القنوات الرسمية بل يعتمدون على المحتوى الرقمي.
- قلة الموارد التي تحدّ من التواصل الميداني المباشر.
يمكن تلخيص الفوائد العملية التي تحققها البلديات من خلال استخدام السوشيال ميديا في خمسة محاور رئيسية:
1. التواصل السريع والفعال:
وسائل مثل فيسبوك، تيليغرام، وإنستغرام توفر إمكانية النشر اللحظي للأخبار، كأعمال الصيانة، انقطاعات المياه أو الكهرباء، أو الإعلان عن مشاريع جديدة.
مثال: بلدية لوس أنجلوس الأمريكية تستخدم حسابها على تويتر لإبلاغ المواطنين بموعد تنظيف الشوارع، مما أدى إلى انخفاض المخالفات المرتبطة بركن السيارات بنسبة 20%.
2. تسهيل آليات المساءلة والمشاركة:
يمكن للبلديات أن تفتح المجال لتلقي الشكاوى أو الاقتراحات عبر نماذج تفاعلية أو استطلاعات، مما يخلق شعوراً بالشراكة المجتمعية.
مثال: في بريطانيا، تستخدم بلدية ليدز تطبيقاً رقمياً مرتبطاً بوسائل التواصل يسمح للمواطنين بالإبلاغ عن أعطال الإنارة أو الحفر، ويُتابع البلاغ بشكل آلي حتى يتم إصلاحه.
3. تعزيز الشفافية وبناء الثقة:
نشر التقارير المالية، نسب الإنجاز في المشاريع، أو حتى أسباب التأخير، يخلق بيئة شفافة تقلل من الشكوك وتعزز الرقابة الشعبية.
مثال: بلدية كيب تاون في جنوب أفريقيا تنشر شهرياً على فيسبوك تقارير مصورة حول إنفاقها في مشاريع البنية التحتية، ويتابع الصفحة أكثر من 400 ألف مواطن.
4. تحسين سمعة المؤسسة ومصداقيتها:
الحضور الرقمي الرسمي يمنع انتشار الإشاعات، ويرسخ صورة البلدية كمصدر موثوق للمعلومة، ما ينعكس إيجابًا على الاستقرار الاجتماعي.
مثال: خلال فيضانات عام 2021 في ألمانيا، أنشأت بلديات صغيرة مثل باد نويْنار قنوات بث حي على فيسبوك لتوجيه السكان في الوقت الحقيقي، ما أنقذ الأرواح ورفع من ثقة الناس بالإدارة المحلية.
5. نشر الوعي العام وتعزيز الانتماء:
وسائل التواصل تُستخدم لعرض قصص النجاح، المبادرات المحلية، والأنشطة المجتمعية، مما يعزز من الشعور بالانتماء إلى المكان ويحفز المواطنين للمشاركة.
مثال: بلدية سافونلينا في فنلندا تنشر أسبوعياً مقاطع فيديو قصيرة من تصوير السكان تعرض جوانب من الحياة اليومية، ضمن حملة "مدينتي بعيونكم"، مما زاد التفاعل المجتمعي بنسبة 60%.
ماذا نخسر عندما تغيب البلدية عن السوشيال ميديا؟
غياب البلديات عن وسائل التواصل لا يعني فقط فقدان أداة إعلامية، بل فقدان منظومة متكاملة من التفاعل والتأثير.
وفي المناطق الريفية خصوصاً، تظهر آثار هذا الغياب بوضوح:
- يُترك المواطن في فراغ معلوماتي، فيعتمد على الإشاعات.
- تفقد الإدارة الفرصة في فهم أولويات الناس ومطالبهم.
- تغيب الشفافية، فينمو الشك واللامبالاة.
- يصعب الوصول إلى فئات الشباب والنساء، خاصة في ظل قيود الحضور المباشر.
بحسب دراسة صادرة عن منظمة OECD عام 2021، فإن البلديات التي لا تعتمد أي وسيلة تواصل رقمية تسجل معدلات رضا شعبي أقل بنسبة 28% مقارنة بتلك التي تستخدم قنوات تواصل نشطة.
لذلك ولتحقيق نقلة في العلاقة بين المواطن والإدارة المحلية، يمكن للبلديات أن تبدأ بعدد من الخطوات البسيطة:
1. إطلاق صفحة رسمية موثقة على فيسبوك وتيليغرام.
2. نشر المعلومات العامة والمشاريع الجارية والرد على الاستفسارات.
3. تصميم حملات توعية دورية حول النظافة، المياه، المرور، وغيرها.
4. استخدام القصص المصورة والفيديوهات القصيرة لإيصال الرسائل.
5. تخصيص فريق صغير من الموظفين أو المتطوعين لإدارة هذه المنصات.
في الختام يمكننا القول أن بلدية بلا تواصل كمن يدير مدينة من خلف الستار
في عالم تسوده الشفافية الرقمية، لا يمكن لأي إدارة محلية أن تبني ثقة أو تحقق استقراراً اجتماعياً دون أن يكون لها حضور فعال في حياة الناس اليومية.
وسائل التواصل الاجتماعي ليست رفاهية، بل أداة حوكمة، وجزء من المسؤولية تجاه المواطن. في الريف أو في المدن، يجب أن تعبر البلدية عن نفسها، وتفتح أذنيها لصوت من تخدمهم.